سورة لقمان - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (لقمان)


        


ولما كان الإنسان لا يعرف حكمة الحكيم إلا بأقواله وأفعاله، ولا صدق الكلام وحكمته إلا بمطابقته للواقع، فكان التقدير: اذكر ما وصفنا به لقمان لتنزل عليه ما تسمع من أحواله وأفعاله في توفية حق الله وحق الخلق الذي هو مدار الحكمة، عطف عليه قوله: {وإذ} أي واذكر بقلبك لتتعظ وبلسانك لتعظ غيرك- بما أنك رسول- ما كان حين {قال لقمان لابنه} ما يدل على شكره في نفسه وامره به لغيره فإنه لا شكر يعدل البراءة من الشرك، وفيه حث على التخلق بما مدح به لقمان بما يحمل على الصبر والشكر والمداومة على كل خير، وعلى تأديب الولد، بسوق الكلام على وجه يدل على تكرير وعظه فقال: {وهو يعظه} أي يوصيه بما ينفعه ويرقق قلبه ويهذب نفسه، ويوجب له الخشية والعدل.
ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الاعتقاد وإصلاح العمل، وكان الأول أهم، قدمه فقال: {يا بني} فخاطبه بأحب ما يخاطب به، مع إظهار الترحم والتحنن والشفقة، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح {لا تشرك} أي لا توقع الشرك لا جليا ولا خفياً، ولما كان في تصغيره الإشفاق عليه، زاد ذلك بإبراز الاسم الأعظم الموجب لاستحضار جميع الجلال، تحقيقاً لمزيد الإشفاق. فقال: {بالله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، ثم علل هذا النهي بقوله: {إن الشرك} اي بنوعيه {لظلم عظيم} أي فهو ضد الحكمة، لأنه وضع الشيء في غير محله، فظلمه ظاهر من جهات عديدة جداً، أظهرها أنه تسوية المملوك الذي ليس له من ذاته إلا العدم نعمة منه أصلاً بالمالك الذي له وجوب الوجود، فلا خير ولا نعمة إلا منه، وفي هذا تنبيه لقريش وكل سامع على أن هذه وصية لا يعدل عنها، لأنها من أب حكيم لابن محنو عليه محبوب، وأن آباءهم لو كانوا حكماء ما فعلوا إلا ذلك، لأنه يترتب عليها ما عليه مدار النعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية، العاجلة والآجلة، وهو الأمن والهداية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] فإنه لما نزلت تلك الآية كما هو صحيح البخاري في غير موضع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس بذاك، ألم تسمع إلى قول لقمان {إن الشر لظلم عظيم}».
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد، وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة والبشاعة، أتبعه سبحانه وصيته للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني المتفرد سبحانه بكونه جعله سبب وجود الولد اعترافاً بالحق وإن صغر لأهله وإيذاناً بأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، وتفخيماً لحق الوالدين، لكونه قرن عقوقهما بالشرك، وإعلاماً بأن الوفاء شيء واحد متى نقص شيء منه تداعى سائره كما في الفردوس عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن العبد لقي الله بكمال ما افترض عليه ما خلا بر الوالدين ما دخل الجنة، وإن بر الوالدين لنظام التوحيد والصلاة والذكر» ولذلك لفت الكلام إلى مظهر العظمة ترهيباً من العقوق ورفعاً لما لعله يتوهم من أن الانفصال عن الشرك لا يكون إلا بالإعراض عن جميع الخلق.
ولما قد يخيله الشيطان من أن التقيد بطاعة الوالد شرك، مضمناً تلك الوصية إجادة لقمان عليه السلام في تحسين الشرك وتقبيح الشرك لموافقته لأمر رب العالمين، وإيجاب امتثال ابنه لأمره، فقال مبيناً حقه وحق كل والد غيره، ومعرفاً قباحة من أمر ابنه بالشرك لكونه منافياً للحكمة التي أبانها لقمان عليه السلام، وتحريم امتثال الابن لذلك ووجوب مخالفته لأبيه فيه تقديماً لأعظم الحقين، وارتكاباً لأخف الضررين: {ووصينا} أي قال لقمان ذلك لولده نصحاً له والحال أنا بعظمتنا وصينا ولده به بنحو ما أوصاه به في حقنا- هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يشمل غيره فقال: {الإنسان} أي هذا النوع على لسان أول نبي أرسلنا وهلم جراً وبما ركزناه في كل فطرة من أنه ما جزاء الإحسان إلا الإحسان {بوالديه} فكأنه قال: إن لقمان عرف نعمتنا عليه وعلى أبناء نوعه لوصيتنا لأولادهم بهم فشكرنا ولقن عنا نهيهم بذلك عن الشرك لأنه كفران لنعمة المنعم، فانتهى في نفسه ونهى ولده، فكان بذلك حكيماً.
ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما للأب من العظمة بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها، نوه بها ونبه على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه عن الأب مما حصل لها من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية. فقال معللاً أو مستأنفاً: {حملته أمه وهناً} أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت {على وهن} أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئاً بقوله: {وفصاله} أي فطامه من الرضاعة بعد وضعه.
ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك وترجية لهما بالعول عليه وتعظيماً لحقهما بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا فيه باتساع زمنه فقال: {في عامين} تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا لله تعالى، وفي التعبير بالعام أيضاً إشارة إلى تعظيم منتهاه بكونها تعد أيام رضاعه- مع كونها أضعف ما يكون في تربيته- أيام سعة وسرور، والتعبير ب {في} مشيراً إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله، وتدعو إليه المصلحة من أمره.
ولما ذكر الوصية وأشار إلى أمهات أسبابها، ذكر الموصى به فقال مفسراً ل {وصينا}: {أن اشكر} ولما كان الشكر منظوراً إليه أتم نظر، قصر فعله، أي أوجد هذه الحقيقة ولتكن من همك. ولما كان لا بد له من متعلق، كان كأنه قال: لمن؟ فقال مقدماً ما هو أساس الموصى به في الوالدين ليكون معتداً به، لافتاً القول إلى ضمير الواحد من غير تعظيم تنصيصاً على المراد: {لي} أي لأني المنعم بالحقيقة {ولوالديك} لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك، وذكر الإنسان بهذا الذكر في سورة الحكمة إشارة إلى أنه أتم الموجودات حكمة قال الرازي في آخر سورة الأحزاب من لوامعه: الموجودات كلها كالشجرة، والإنسان ثمرتها، وهي كالقشور والإنسان لبابها، وكالمبادئ والإنسان كمالها، ومن أين للعالم ما للإنسان؟ بل العالم العلوي فيه، ليس في العالم العلوي ما فيه، فقد جمع ما بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين بعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً، وسلم لمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً. ثم علل الأمر بالشكر محذراً فقال: {إليّ} لا إلى غيري {المصير} أي فأسألك عن ذلك كما كانت منهما البداءة ظاهراً بما جعلت لهما من التسبب في ذلك، فيسألانك عن القيام بحقوقهما وإن قصرت فيها شكواك إلى الناس وأقاما عليك الحجة وأخذا بحقهما.
ولما ذكر سبحانه وصيته بهما وأكد حقهما، أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان عليه السلام من قباحة الشرك فقال: {وإن جاهداك} أي مع ما أمرتك به من طاعتهما، وأشار بصيغة المفاعلة إلى مخالفتهما وإن بالغا في الحمل على ذلك {على أن تشرك بي} وأشار بأداة الاستعلاء إلى أنه لا مطمع لمن أطاعهما في ذلك ولو باللفظ فقط أن يكون في عداد المحسنين وإن كان الوالدان في غاية العلو والتمكن من الأسباب الفاتنة له بخلاف سورة العنكبوت فإنها لمطلق الفتنة، وليست لقوة الكفار، فعبر فيها بلام العلة، إشارة إلى مطلق الجهاد الصادق بقويه وضعيفه، ففي الموضعين نوع رمز إلى أنه إن ضعف عنهما أطاع باللسان، ولم يخرجه ذلك عن الإيمان، كما أخرجه هنا عن الوصف بالإحسان، ولذلك حذر في الأية التي بعد تلك من النفاق لأجل الفتنة، وأحال سبحانه على اتباع الأدلة على حكم ما وهب من العقل عدلاً وإنصافاً فقال: {ما ليس لك به علم} إشارة إلى أنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بنوع من أنواع الدلالات بل العلوم كلها دالة على الوحدانية على الوجه الذي تطابقت عليه العقول، وتظافرت عليه من الأنبياء والرسل النقول، وأما الوجه الذي سماه أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد توحيداً فقد كفى في أنه ليس به علم إطباقهم على أنه خارج عن طور العقل، مخالف لكل ما ورد عن الأنبياء من نقل، وإن لبسوا بإدعاء متابعة بعض الآيات كما بينه كتابي الفارض، فلا يمكن أن يتمذهب به أحد إلا بعد الانسلاخ من العقل والتكذيب بالنقل، فلم يناد أحد على نفسه بالإبطال ما نادوا به على أنفسهم ولكن من يضلل الله فما له من هاد.
فلما قرر ذلك على هذا المنوال البديع، قال مسبباً عنه: {فلا تطعهما} أي في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه، بل خالفهما، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به، لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه، ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك.
ولما كان هذا قد يفهم الإعراض عنهما رأساً في كل أمر إذا خالفا في الدين، أشار إلى أنه ليس مطلقاً فقال: {وصاحبهما في الدنيا} أي في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دامت حياتهما.
ولما كان المبنى على النقصان عاجزاً عن الوفاء بجميع الحقوق، خفف عليه بالتنكير في قوله: {معروفاً} أي ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما يقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، قال ابن ميلق: ويلوح من هذه المشكاة تعظيم الأشياخ الذين كانوا في العادة سبباً لإيجاد القلوب في دوائر التوحيد العلمية والعملية- يعني ففي سوق هذه الوصية هذا المساق أعظم تنبيه على أن تعظيم الوسائط من الخلق ليس مانعاً من الإخلاص في التوحيد، قال ابن ميلق: ومن هنا زلت أقدام أقوام تعمقوا في دعوى التوحيد حتى أعرضوا عن جانب الوسائط فوقعوا في الكفر من حيث زعموا التوحيد فإن تعظيم المعظم في الشرع تعظيم لحرمات الله، وامتثال لأمر الله، ولعمري إن هذه المزلة ليتعثر بها أتباع إبليس حيث أبى أن يسجد لغير الله، ثم قال ما معناه: وهؤلاء قوم أعرضوا عن تعظيم الوسائط زاعمين الغيرة على مقام التوحيد، وقابلهم قوم أسقطوا الوسائط جملة وقالوا: إنه ليس في الكون إلا هو، وهم أهل الوحدة المطلقة، والكل على ضلال، والحق الاقتصاد والعدل في إثبات الخالق وتوحيده، وتعظيم من أمر بتعظيمه من عبيده.
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة، نفى ذلك بقوله: {واتبع} أي بالغ في أن تتبع {سبيل} أي دين وطريق {من أناب} أي أقبل خاضعاً {إليّ} لم يلتفت إلى عبادة غيري، وهم المخلصون من أبويك وغيرهما، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله والإخلاص له، وفي هذا حث على معرفة الرجال بالحق، وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن كان عمله موافقاً لها اتبع، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب.
ولما كان التقدير: فإن مرجع أموركم كلها في الدنيا إليّ، عطف عليه قوله: {ثم إليّ} أي في الآخرة، لا إلى غيري مرجعك- هكذا كان الأصل، ولكنه جميع لإرادة التعميم فقال معبراً بالمصدر الميمي الدال على الحدث وزمانه ومكانه: {مرجعكم} حساً ومعنى، فأكشف الحجاب {فأنبئكم} أي أفعل فعل من يبالغ في التنقيب والإخبار عقب ذلك وبسببه، لأن ذلك أنسب شيء للحكمة وإن كان تعقيب كل شيء بحسب ما يليق به {بما كنتم} بما هو لكم كالجبلة {تعملون} أي تجددون عمله من صغير وكبير، وجليل وحقير، وما كان في جبلاتكم مما لم يبرز إلى الخارج، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد، فأعد لذلك عدته، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله، ولعله عبر عن الحساب بالتنبئة لأن العلم بالعمل سبب للمجازاة عليه أو لأنه جمع القسمين، ومحاسبة السعيد العرض فقط بدلالة التضمن ومحاسبة الشقي بالمطابقية.


ولما فرغ من تأكيد ما قاله لقمان عليه السلام في الشكر والشرك فعلم ما أوتي من الحكمة، وختمه بعد الوصية بطاعة الوالد بذكر دقيق الأعمال وجليلها، وأنها في علم الله سواء، حسن جداً الرجوع إلى تمام بيان حكمته، فقال بادئاً بما يناسب ذلك من دقيق العلم ومحيطه المكمل لمقام التوحيد، وعبر بمثقال الحبة لأنه أقل ما يخطر غالباً بالبال، وهي من أعظم حاث على التوحيد الذي مضى تأسيسه: {يا بني} متحبباً مستعطفاً، مصغراً له بالنسبة إلى حمل شيء من غضب الله تعالى مستضعفاً: {إنها} أي العمل، وأنث لأنه في مقام التقليل والتحقير، والتأنيث أولى بذلك، ولأنه يؤول بالطاعة والمعصية والحسنة والسيئة {إن تك} وأسقط النون لغرض الإيجار في الإيصاء بما ينيل المفاز، والدلالة على أقل الكون وأصغره {مثقال} أي وزن، ثم حقرها بقوله: {حبة} وزاد في ذلك بقوله: {من خردل} هذا على قراءة الجمهور بالنصب، ورفع المدنيان على معنى أن الشأن والقصة العظيمة أن توجد في وقت من الأوقات هنة هي أصغر شيء وأحقره- بما أشار إليه التأنيث.
ولما كان قد عرف أن السياق لماذا أثبت النون في قوله مسبباً عن صغرها: {فتكن} إشارة إلى ثباتها في مكانها. وليزداد تشوف النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب لما علم من أن المقصد عظيم بحذف النون وإثبات هذه، وعسرّها بعد أن حقرها بقوله معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الإحراز: {في صخرة} أي أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأقواها وأصغرها وأخفاها.
ولما أخفى وضيق، أظهر ووسع، ورفع وخفض، ليكون أعظم لضياعها لحقارتها فقال: {أو في السماوات} أي في أيّ مكان كان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها، وأعاد {أو} نصاً على إرادة كل منهما على حدته، والجار تأكيداً للمعنى فقال: {أو في الأرض} أي كذلك، وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في إحداهما، وعبر له بالاسم الأعظم لعلو المقام فقال: {يأتِ بها الله} بعظم جلاله، وباهر كبريائه وكماله، بعينها لا يخفى عليه ولا يذهب شيء منها، فيحاسب عليها، ثم علل ذلك من علمه وقدرته بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكار ذلك لما له من باهر العظمة من دأب النفوس إن لم يصحبها التوفيق: {إنّ الله} فأعاد الاسم الأعظم تنبيهاً على استحضار العظمة وتعميماً للحكم {لطيف} أي عظيم المتّ بالوجوه الخفية الدقيقة الغامضة في بلوغه إلى أمر أراده حتى بضد الطريق الموصل فيهما يظهر للخلق {خبير} بالغ العلم بأخفى الأشياء فلا يخفى عليه شيء، ولا يفوته أمر.
ولما نبهه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب، أمره مما يدخره لذلك توسلاً إليه، وتخضعاً لديه، وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه، فقال: {يا بني} مكرراً للمناداة على هذا الوجه تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة {أقم الصلاة} أي بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها، سعياً في نجاة نفسك وتصفية سرك، فإن إقامتها- وهي الإيتان بها على النحو المرضي- مانعة من الخلل في العمل {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} لأنها الإقبال على من وحدته فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم، ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثانية التوحيد، وترك ذكر الزكاة تنبيهاً على أن من حكمته تخليه وتخلي ولده من الدنيا حتى مما يكفيهم لقوتهم.
ولما أمر بتكميله في نفسه بتكميل نفسه توفية لحق الحق، عطف على ذلك تكميله لنفسه بتكميل غيره توفية لحق الخلق، وذلك أنه لما كان الناس في هذه الدار سفراً، وكان المسافر إن أهمل رفيقه حتى أخذ أوشك أن يؤخذ هو، أمره بما يكمل نجاته بتكميل رفيقه، وقدمه- وإن كان من جلب المصالح- لأنه يستلزم ترك المنكر، وأما ترك المنكر فلا يستلزم فعل الخير، فإنك إذا قلت: لا تأت منكراً، لم يتناول ذلك في العرف إلا الكف عن فعل المعصية، لا فعل الطاعة، فقال: {وأمر بالمعروف} أي كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك شفقة على نفسك بتخليص أبناء جنسك.
ولما كانت هذه الدار سفينة لسفر من فيها إلى ربهم، وكانت المعاصي مفسدة لها، وكان فساد السفينة مغرقاً لكل من فيها: من أفسدها ومن أهمل المفسد ولم يأخذ على يده، وكان الأمر بالمعروف نهياً عن المنكر، صرح به فقال: {وانه} أي كل من قدرت على نهيه {عن المنكر} حباً لأخيك ما تحب لنفسك، تحقيقاً لنصيحتك، وتكميلاً لعبادتك، لأنه ما عبد الله أحد ترك غيره يتعبد لغيره، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لأنه أمره أولاً بالمعروف، وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، فإذا أمر نفسه ونهاها، ناسب أن يأمر غيره ينهاه، وهذا وإن كان من قول لقمان عليه السلام إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به.
ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر، لأنه يخالف المعظم فيرمونه عن قوس واحدة لا سيما أن أمرهم ونهاهم، قال تعالى: {واصبر} صبراً عظيماً بحيث يكون مستعلياً {على ما} أي الذي، وحقق بالماضي أنه لا بد من المصيبة ليكون الإنسان على بصيرة، فقال: {أصابك} أي في عبادتك من الأمر بالمعروف وغيره سواء كان بواسطة العباد أو لا كالمرض ونحوه، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنها ملاك الاستعانة {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] واختلاف المخاطب في الموضعين أوجب اختلاف الترتيبين، المخاطب هنا مؤمن متقلل، وهناك كافر متكثر.
ولما كان ما أحكمه له عظيم الجدوى، وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال والتروك كلها، نبهه على ذلك بقوله على سبيل التعليل والاستئناف إيماء إلى التبجيل: {إن ذلك} أي الأمر العظيم الذي أوصيتك به لا سيما الصبر على المصائب: {من عزم الأمور} أي معزوماتها، تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر، أي الأمور المقطوع بها المفروضة أو القاطعة الجازمة بجزم فاعلها، أي التي هي أهل لأن يعزم عليها العازم، وينحو إليها بكليته الجازم، فلا مندوحة في تركها بوجه من الوجوه في ملة من الملل.
ولما كان من آفات العبادة لا سيما الأمر والنهي- لتصورهما بصورة الاستعلاء- الإعجاب إلى الكبر، قال محذراً من ذلك معبراً عن الكبر بلازمه، لأن النفي الأعم نفي للأخص، منبهاً على أن المطلوب في الأمر والنهي اللين لا الفظاظة والغلظة الحاملان على النفور: {ولا تصعر خدك} أي لا تمله معتمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة، وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: تصاعر، والمراد بالمفاعلة والتفعيل تعمد فعل ذلك لأجل الكبر حتى يصير خلقاً، والمراد النهي عما يفعله المصعر من الكبر- والله أعلم.
ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تذم، أشار إلى المقصود بقوله تعالى: {للناس} بلام العلة، أي لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم، وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر، بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر ولا علو، وأتبع ذلك ما يلزمه فقال: {ولا تمش} ولما كان في أسلوب التواضع وذم الكبر، ذكره بأن أصله تراب، وهو لا يقدر أن يعدوه فقال: {في الأرض} وأوقع المصدر موقع الحال أو العلة فقال: {مرحاً} أي اختيالاً وتبختراً، أي لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر وبطر وتكبر، فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي، بل امش هوناً فأن ذلك يفضي بك إلى التواضع، فتصل إلى كل خير، فترفق بك الأرض إذا صرت فيها حقيقة بالكون في بطنها.
ولما كانت غاية ذلك الرياء للناس والفخر عليهم المثمر لبغضتهم الناشئة عن بغضة الله تعالى، علله بقوله مؤكداً لأن كثيراً من الناس يظن أن أسباغ النعم الدنيوية من محبة الله: {إن الله} أي الذي لا ينبغي الكبر إلا له لما له من العظمة المطلقة. ولما كان حب الله الذي يلزمه حب الناس محبوباً للنفوس، وكان فوات المحبوب أشق على النفوس من وقوع المحذور، وكانت {لا} لا تدخل إلا على المضارع المستقبل قال: {لا يحب} أي فيما يستقبل من الزمان، ولو قال يبغض لاحتمال التقييد بالحال، ولما كان النشر المشوش أفصح لقرب الرجوع تدليا فيما ترقى فيه المقبل قال: {كل مختال} أي مراء للناس في مشيه تبختراً يرى له فضلاً على الناس فيشمخ بأنفه، وذلك فعل المرح {فخور} يعدد مناقبه، وذلك فعل المصعر، لأن ذلك من الكبر الذي تردى به سبحانه وتعالى فمن نازعه إياه قصمه.


ولما كان النهي عن ذلك امراً بأضداده، وكان الأمر بإطلاق الوجه يلزم منه الإنصاف في الكلام، وكان الإنصاف في الكلام والمشي لا على طريق المرح والفخر ربما دعا إلى الاستماتة في المشي والحديث أو الإسراع في المشي والسر والجهر بالصوت فوق الحد، قال محترساً في الأمر بالخلق الكريم عما يقارب الحال الذميم: {واقصد} أي اعدل وتوسط {في مشيك} لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار ودبيب المتماوتين، وعن ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان- قال الرازي في اللوامع، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ولا بتكبر {واغضض} أي انقص، ولأجل ما ذكر قال: {من صوتك} بإثبات {من} أي لئلا يكون صوتك منكراً، وتكون برفع الصوت فوق الحاجة حماراً، وأما مع الحاجة كالأذان فهو مأمور به.
ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا ب {من} فأفهم أن الطرفين مذمومان، علل النهي عن الأول دالاً بصيغة أفعل على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً عنه فقال: {إن أنكر} أي أفظع وأبشع وأوحش {الأصوات} أي كلها المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة، وأخلى الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً، مبالغة في التهجين، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال: {لصوت الحمير} أي هذا الجنس، لما له من الغلو المفرط من غير حاجة، وأوله زفير وآخره شهيق، وهما فعل أهل النار، وأفرده ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الذم والشتم ما ليس لغيره ولذلك يستهجن التصريح باسمه، وهذا يفهم أن الرفع مع الحاجة غير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع، ولقد دعت هذه الآيات إلى معالي الأخلاق، وهي أمهات الفضائل الثلاث: الحكمة والعفة والشجاعة، وأمرت بالعدل فيها، وهي وظيفة التقسيط الذي هو الوسط الذي هو مجمع الفضائل، ونهت عن مساؤى الأخلاق، وهي الأطراف التي هي مبدأ الرذائل الحاصل بالإفراط والتفريط، فإقامة الصلاة التي هي روح العبادة المبنية على العلم هي سر الحكمة والنهي، أمر بالشجاعة ونهى عن الجبن، وفي النهي عن التصعير وما معه نهي عن التهور، والقصد في المشي والغض في الصوت أمر بالعفة ونهي عن الاستماتة والجمود والخلاعة والفجور، وفي النهي عن الاستماتة نهي عما قد يلزمها من الجربزة، وهي الفكر بالمكر المؤدي إلى اللعنة، وعن الانحطاط إلى البله والغفلة، والكافل بشرح هذا ما قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني في الكلام على الإجماع من تلويحه، قال: إن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى: إحداها مبدأ إدراك الحقائق، والشوق إلى النظر في العواقب، والتمييز بين المصالح والمفاسد، ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية والنفس المطمئنة الملكية، والثانية مبدأ جذب المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك، وتسمى القوة الشهوية والبهيمية والنفس الأمارة، والثالثة مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع، وهي القوة الغضبية والسبعية والنفس اللوامة، ويحدث من اعتدال الحركة الأولى الحكمة، والثانية العفة، والثالثة الشجاعة، فأمهات الفضائل هي هذه الثلاث، وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها، وكل منها وكل منها محتوش بطر في إفراط وتفريط هما رذيلتان، أما الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي بقدر الاستطاعة، وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى:
{ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [البقرة: 269] وإفراطها الجربزة، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات، وعلى وجه لا ينبغي، كمخالفة الشرائع- نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت: وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجربز- بالضم، وهو الخب، أي الخداع الخبيث- والله أعلم، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرداة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة، وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقة ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الماثلة، حتى يكون فعلها جميلاً، وصبرها محموداً، وإفراطها التهور، أي الإقدام على ما لا ينبغي، وتفريطها الجبن، أي الحذر عما لا ينبغي، وأما العفة فهي انقياد البهيمة للناطقة، لتكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقة، لتسلم عن استعباد الهوى إياها، واستخدام اللذات، وإفراطها الخلاعة والفجور، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب، وتفريطها الجمود، أي السكوت عن طلب الذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثاراً لا خلقة، فالأوساط فضائل، والأطراف رذائل، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث حصلت من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة، فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة، أي في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143] وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام «خير الأمور أوساطها» والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة ليصل إلى كمالها اللائق بها، ومقصدها المتوجه إليه، وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها ودفع الفساد المتوقع من استيلائها، واشترط التوسط في أفعالها لئلا تستعبد الناطقة هواهما وتصرفاها عن كمالها ومقصدها- انتهى.
ولما انقضت هذه الجمل، رافعة أعناقها على المشتري وزحل، قابلة لمن يريد عملها مع الكسل، والضجر في الفكر والملل، وأين الثريا من يد المتناول، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر شيئين متضادين، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة، لكنها بمسالك دقيقة وإشارات خفية، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر، ورفع الصوت فوق الحاجة، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة، وكانت العادة جارية بأن اللك يخضع له تارة لمجرد عظمته، وتارة خوفاً من سطوته، وتارة رجاء لنعمته، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل، وأن إليه المرجع، وهو عالم على استحقاقه، لما أمر به لقمان شيء، وأن كل ما ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره، ولو كل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه، محذراً من سلبها عن المتكبر وإعطائها للذليل المحتقر، فقال: {ألم تروا} اي تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة أيها المشترون لهو الحديث، المتكبرون علي المقبلين على الله، المتخلين عن الدنيا، الذين قلنا لهم رداً عن الشرك وإبعاداً عن الهوى والإفك {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} {أن الله} أي الحائز لكل كمال {سخر لكم} أي خاصة {ما في السماوات} بالإنارة والإظلام، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام، وأكده بإعادة الموصول والجار، لأن المقام حقيق به فقال: {وما في الأرض} بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه، ما لأحد ممن دونه فيه شيء، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلماً، فهو قادر على تعسيره فينبئكم بما كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن {وأسبغ} أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل {عليكم} أيها المكلفون {نعمه} أي واحدة تليق بالدنيا- في قراءة الجماعة بإسكان العين وتاء تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم، مشيراً إلى أنها ذات أنواع كثيرة جداً، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تاء التأنيث ضميراً له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعاً {ظاهرة} وهي ما تشاهدونها متذكرين لها {وباطنة} وهي ما غابت عنكم فلا يحسونها، أو تحسونها وهي خفية عنكم، لا تذكرونها إلا بالتذكير، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين، حذراً من سلب نعمه، وإيجاب نقمه، ويجوز أن تكون الآية دليلاً على قوله تعالى: {خلق السماوات بغير عمد ترونها}.
ولما كان التقدير: ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده فمن الناس من أذعن وأناب وسلم لكل ما دعا إليه كتابه الحكيم على لسان رسوله النبي الكريم فكان من الحكماء الحسنين فاهتدى عطف عليه قوله مظهراً موضع ضمير المخاطبين مما يشير إليه النوس: {ومن الناس} أي الذين هم أهل للاضطراب، ويمكن أن يكون حالاً من {ألم تروا} ويكون {ألم تروا} دليلاً على أول السورة، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو، ألم تروا دليلاً على أن من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس {من يجادل} فلا لهو أعظم من جداله، ولا كبر مثل كبره، ولا ضلال مثل ضلاله، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل، وإشارة إلى قبح المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى: {في الله} المحيط بكل شيء علماً وقدرة.
ولما كان سبحانه في ظهور وجوده وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه، وكان المجادل قد يكون فهماً، قال: {بغير} أي بكلام متصف بأنه غير {علم} أي بل بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى.
ولما كان المعنى قد يظهر لبعض القاصرين، لوروده على لسان من لا يعتبر، فإذا أضيف إلى كبير، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه، فظهر على طول حسه، قال معبراً بأداة النفي الحقيقة به، لأن الموضع لها، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم وإن كان جداله متصفاً بالعلم: {ولا هدى} أي وارد عمن عهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها.
ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً، قال: {ولا كتاب} أي من الله؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال: {منير} أي بين غاية البيان، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك.

1 | 2 | 3 | 4